كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}.
قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ}: شرطٌ جوابُه مقدرٌ، ويختلف تقديرُه باختلافِ التفسير في قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} فقال مجاهد: معناه مَنْ كان يريد العزَّةَ بعبادةِ الأوثان، فيكونُ تقديرُه: فَلْيَطْلبها. وقال قتادة: مَنْ كان يريد العزَّة وطريقه القويم ويحب نيْلَها على وجهِها، فيكون تقديره على هذا: فليطلبها. وقال الفراء: من كان يريد عِلمَ العزة، فيكون التقدير: فليَنْسُبْ ذلك إلى الله تعالى. وقيل: مَنْ كان يريد العزة التي لا تَعْقُبها ذِلَّةٌ، فيكونُ التقديرُ: فهو لا يَنالُها. ودَلَّ على هذه الأجوبةِ قولُه: {فَلِلَّهِ العِزَّةُ} وإنما قيل: إن الجوابَ محذوفٌ، وليس هو هذه الجملةَ لوجهين، أحدهما: أنَّ العزَّةَ لله مطلقًا، مِنْ غيرِ ترتُّبِها على شرطِ إرادةِ أحدٍ. الثاني: أنَّه لابد في الجواب مِنْ ضميرٍ يعودُ على اسم الشرط، إذا كان غيرَ ظرف، ولم يُوْجَدْ هنا ضميرٌ. و{جميعًا} حالٌ، والعاملُ فيها الاستقرارُ.
قوله: {إليه يَصْعَدُ} العامَّةُ على بنائِه للفاعل مِنْ صَعِد ثلاثيًا، {الكَلِمُ الطيِّبُ} برفعِهما فاعِلًا ونعتًا. وعلي وابن مسعود {يُصْعِدُ} مِنْ أَصْعَدَ، {الكلمَ الطيبَ} منصوبان على المفعولِ والنعت. وقُرئ {يُصْعَدُ} مبنيًَّا للمفعول. وقال ابنُ عطية: قرأ الضحَّاك {يُصْعد} بضم الياء لكنه لم يُبَيِّن كونَه مبنيًَّا للفاعلِ أو للمفعول.
قوله: {والعملُ الصالحُ} العامَّةُ على الرفعِ. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّه معطوفٌ على {الكلمُ الطيبُ} فيكون صاعدًا أيضًا. و{يَرْفَعُه} على هذا استئنافُ إخبارٍ من اللَّهِ تعالى بأنه يرفعُهما، وإنِّما وُحِّد الضميرُ، وإنْ كان المرادُ الكَلِمَ والعملَ ذهابًا بالضميرِ مَذْهَبَ اسمِ الإِشارة، كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68]. وقيل: لاشتراكِهما في صفةٍ واحدةٍ، وهي الصعودُ. والثاني: أنه مبتدأٌ، و{يرفَعُه} الخبرُ، ولكن اختلفوا في فاعل {يَرْفَعُه} على ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه ضميرُ اللَّهِ تعالى أي: والعملُ الصالحُ يرفعه اللَّهُ إليه. والثاني: أنه ضميرُ العملِ الصالحِ. وضميرُ النصبِ على هذا فيه وجهان، أحدُهما: أنه يعودُ على صاحب العمل، أي يَرْفَعُ صاحبَه. والثاني: أنه ضميرُ الكلمِ الطيبِ أي: العمل الصالح يرفع الكلمَ الطيبَ. ونُقِلَ عن ابن عباس. إلاَّ أنَّ ابنَ عطية منع هذا عن ابن عباس، وقال: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ مَذْهَبَ أهلِ السنَّة أنَّ الكلمَ الطيبَ مقبولٌ، وإنْ كان صاحبُه عاصيًا. والثالث: أنَّ ضميرَ الرفعِ للكَلِمِ، والنصبِ للعملِ، أي: الكَلِمُ يَرْفَعُ العملَ.
وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بنصبِ {العمل الصالح} على الاشتغالِ، والضميرُ المرفوعُ للكلم أو للَّهِ تعالى، والمنصوبُ للعملِ.
قوله: {يَمْكُرون السَّيِّئات} يمكرون أصلُه قاصِرٌ فعلى هذا ينتصِبُ {السيِّئاتِ} على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أي: المَكَراتِ السيئاتِ، أو نعتٍ لمضافٍ إلى المصدر أي: أصناف المَكَراتِ السيئاتِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ {يَمْكُرون} مضمَّنًا معنى يَكْسِبُون فينتصِبُ {السيئاتِ} مفعولًا به.
قوله: {هو يَبُوْرُ} هو مبتدأٌ و{يبورُ} خبرُه. والجملةُ خبرُ قولِه: {ومَكْرُ أولئك}. وجَوَّزَ الحوفيُّ وأبو البقاء أَنْ يكونَ هو فَصْلًا بين المبتدأ وخبرِه. وهذا مردودٌ: بأنَّ الفَصْلَ لا يقعُ قبل الخبرِ إذا كان فعلًا، إلاَّ أن الجرجاني جَوَّز ذلك. وجَوَّز أبو البقاء أيضًا أَنْ يكونَ هو تأكيدًا. وهذا مَرْدودٌ بأنَّ المضمرَ لا يُؤَكِّدُ الظاهرَ.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)}.
قوله: {مِنْ أنثى}: مِنْ مزيدةٌ في {أُنْثى} وكذلك في {مِنْ مُعَمَّر} إلاَّ أنَّ الأولَ فاعلٌ، وهذا مفعولٌ قام مَقامَه و{إلاَّ بعِلْمِه} حالٌ. أي: إلاَّ ملتبسةً بعلمه.
قوله: {مِنْ عُمُرِه} في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه يعودُ على مُعَمَّرٍ آخرَ؛ لأنَّ المرادَ بقوله: {مِنْ مُعَمَّر} الجنسُ فهو يعودُ عليه لفظًا، لا معنى، لأنه بعدَ أَنْ فَرَضَ كونَه معمَّرًا، استحال أَنْ يَنْقُصَ مِنْ عمرِه نفسِه، كقول الشاعر:
وكلُّ أناسٍ قارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهم ** ونحن خَلَعْنا قيدَه فهو ساربُ

ومنه عندي درهمٌ ونصفُه أي: ونصفُ درهمٍ آخرَ. الثاني: أنه يعودُ على {مُعَمَّر} لفظًا. ومعنى ذلك: أنه إذا مضى مِنْ عُمُره حَوْلٌ أُحْصِيَ وكُتِبَ، ثم حَوْلٌ آخرُ كذلك، فهذا هو النَّقْصُ. وإليه ذهب ابنُ عباس وابن جبير وأبو مالك. ومنه قولُ الشاعرِ:
حياتُك أَنْفاسٌ تُعَدُّ فكلَّما ** مضى نَفَسٌ منكَ انْتَقَصْتَ به جُزْءا

وقرأ يعقوبُ وسلام وتُرْوى عن أبي عمروٍ {ولا يَنْقُصُ} مبنيًا للفاعلِ. وقرأ الحسن {مِنْ عُمْره} بسكون الميم.
{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}.
قوله: {سَآئِغٌ شَرَابُهُ}: يجوزُ أَنْ يكونا مبتدًا وخبرًا. والجملةُ خبرٌ ثانٍ، وأَنْ يكونَ {سائغٌ} خبرًا، وشرابُه فاعلًا به، لأنه اعتمد. وقرأ عيسى وتُرْوى عن أبي عمروٍ وعاصمٍ {سَيِّغٌ} مثلُ سَيِّد ومَيِّت. وعن عيسى بتخفيف يائِه، كما يُخَفَّف هَيْن ومَيْت.
وقرأ طلحةُ وأبو نهيك {مَلِحٌ} بفتح الميمِ وكسرِ اللام. فقيل: هو مقصورٌ مِنْ مالِح، ومالِحٌ لُغَيَّةٌ شاذةٌ. وقيل: {مَلِحٌ} بالفتحِ والكسرِ لغةٌ في {مِلْحٌ} بالكسرِ والسكون.
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)}.
قوله: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ}: {ذلكمْ} مبتدأٌ و{اللَّهُ} خبرُه، و{ربُّكم} خبرٌ ثانٍ أو نعتٌ لله. وقال الزمخشري: ويجوز في حكم الإِعرابِ إيقاعُ اسمِ الله صفةً لاسمِ الإِشارةِ، أو عطفَ بيانٍ، و{رَبُّكم} خبرٌ، لولا أنَّ المعنَى يَأْباه. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ اللَّهَ عَلَمٌ لا جنس فلا يُوْصَفُ به. ورَدَّ قولَه: إن المعنى يَأْباه قال: لأنه يكونُ قد أَخْبر عن المشارِ إليه بتلك الصفاتِ والأفعالِ أنَّه مالِكُكُمْ ومُصْلِحُكم.
قوله: {والذين تَدْعُوْن} العامَّةُ على الخطاب في {تَدْعُون} لقوله: {ربُّكم}. وعيسى وسلام ويعقوب- وتُرْوى عن أبي عمرٍو- بياءِ الغَيْبة: إمَّا على الالتفاتِ، وإمَّا على الانتقال إلى الإِخبارِ. والفرقُ بينهما: أنه في الالتفاتِ يكون المرادُ بالضميرَيْن واحدًا بخلافِ الثاني؛ فإنهما غَيْران. و{ما يَمْلِكون} هو خبرُ الموصولِ. و{مِنْ قِطْمير} مفعولٌ به، و مِنْ فيه مزيدةٌ.
والقِطْميرُ: المشهورُ فيه أنَّه لُفافَةُ النَّواةِ. وهو مَثَلٌ في القِلَّة، كقوله:
وأبوكَ يَخْصِفُ نَعْلَه مُتَوَرِّكًا ** ما يَمْلك المِسْكينُ مِنْ قِطْميرِ

وقيل: هو القُمْعُ. وقيل: ما بين القُمْعِ والنَّواةِ. وقد تقدَّم أنَّ في النَّواةِ أربعةَ أشياءَ يُضْرَبُ بها المَثَلُ في القِلَّة: الفَتِيلُ، وهو ما في شِقِّ النَّواةِ، والقِطْميرُ: وهو اللُّفافَةُ، والنَّقِيْرُ، وهو ما في ظهرها، والثُّفْروقُ، وهو ما بين القُمْع والنَّواة.
{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}.
قوله: {بِشِرْكِكُمْ}: مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه.
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)}.
قوله: {وَازِرَةٌ}: أي: نفسٌ وازِرَةٌ، فحذف الموصوفَ للعِلْم به. ومعنى تَزِرُ: تَحْمِلُ أي: لا تحملُ نَفْسٌ حامِلَةٌ حِمْلَ نفسٍ أخرى.
قوله: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أي: نفسٌ مُثْقَلَةٌ بالذنوب نفسًا إلى حِمْلِها. فحذف المفعولَ به للعِلْم به. والعامَّةُ {لا يُحْمَلُ} مبنيًا للمفعولِ و{شيءٌ} قائمٌ مَقامَ فاعلِه. وأبو السَّمَّال وطلحة- وتُرْوى عن الكسائي- بفتح التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الميم. أَسْنَدَ الفعلَ إلى ضميرِ النفسِ المحذوفةِ التي جعلها مفعولةً ل {تَدْعُ} أي: لا تَحْمِل تلكَ النفسُ المدعوَّةُ. {شيئًا} مفعولٌ ب {لا تَحْمِل}.
قوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} أي: ولو كان المَدْعُوُّ ذا قُرْبى. وقيل: التقديرُ: ولو كان الداعِي ذا قُرْبى. والمعنيان حسنان. وقُرِئ {ذو} بالرفعِ، على أنها التامَّةُ أي: ولو حَضَرَ ذو قُرْبى نحو: قد كان مِنْ مطْر، {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280]. قال الزمخشري: ونَظْمُ الكلامِ أحسن ملاءَمةً للناقصةِ؛ لأنَّ المعنى: على أنَّ المُثْقَلَةَ إذا دَعَتْ أحدًا إلى حِمْلِها لا يُحْمَلُ منه شيءٌ، ولو كان مَدْعُوُّها ذا قُرْبى، وهو مُلْتَئِمٌ. ولو قلت: ولو وُجِد ذو قُرْبى لخَرَج عن التئامِه. قال الشيخ: وهو ملْتَئِمٌ على المعنى الذي ذكَرْناه. قلت: والذي قاله هو أي: ولو حَضَرَ إذ ذاك ذُو قربى ثم قال: وتفسيرُ الزمخشريِّ كان- وهو مبنيٌّ للفاعل يُوْجَدُ وهو مبنيٌّ للمفعول- تفسيرُ معنى، والذي يفسِّر النحويُّ به كان التامَّةَ هو حَدَث وحَضَر ووقَعَ.
قوله: {بالغَيْب} حالٌ من الفاعل أي: يَخْشَوْنه غائبين عنه، أو من المفعول أي: غائبًا عنهم.
قوله: {ومَنْ تَزَكَّى} قرأ العامَّةُ {تَزَكَّى} تَفَعَّل، {فإنما يَتَزَكَّى} يتفعَّل. وعن أبي عمروٍ {ومَنْ يَزَّكِّى} {فإنما يَزَّكَّى} والأصلُ فيهما: يَتَزَكَّى فأُدْغِمَتْ التاءُ في الزايِ كما أُدْغِمت في الذال نحو: يَذَّكَّرون في يتذكَّرون وابنُ مَسْعود وطلحة {ومَنْ ازَّكَّى} والأصلُ: تَزَكَّى فَأُدْغِمَ باجتلابِ همزةِ الوصلِ، {فإنما يَزَّكَّى} أصلُه يَتَزَكَّى فأُدْغِمَ، كأبي عمروٍ في غيرِ المشهورِ عنه.
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)}.
قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير}: استوى من الأفعال التي لا يُكْتَفَى فيها بواحدٍ لو قلت: استوى زيدٌ لم يَصِحَّ، فمِنْ ثَمَّ لَزِمَ العطفُ على الفاعلِ أو تعدُّدُه.
و لا في قوله: {ولا الظلماتُ} إلى آخره مكررةٌ لتأكيدِ النفيِ. وقال ابنُ عطية: دخولُ لا إنما هو على نيةِ التَّكْرارِ، كأنه قال: ولا الظلماتُ والنورُ، ولا النورُ والظلماتُ، فاسْتُغْني بذِكْرِ الأوائل عن الثواني، ودَلَّ مذكورُ الكلامِ على مَتْروكِه. قال الشيخ: وهذا غير مُحْتاجٍ إليه؛ لأنه إذا نُفِي اسْتواؤُهما أولًا فأيُّ فائدةٍ في نَفْي اسْتوائِهما ثانيًا وهو كلامٌ حَسَنٌ إلاَّ أنَّ الشيخَ هنا قال: فدخولُ لا في النفيِ لتأكيدِ معناه، كقوله: {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة} [فصلت: 34]. قلت: وللناسِ في هذه الآيةِ قولان، أحدهما: ما ذُكِر. الثاني: أنها غيرُ مؤكِّدة؛ إذ يُراد بالحسنةِ الجنسُ، وكذلك {السيئة} فكلُّ واحدٍ منهما متفاوتٌ في جنسِه؛ لأنَّ الحسناتِ درجاتٌ متفاوتةٌ، وكذلك السَّيئاتُ، وسيأتي لك تحقيقُ هذا إنْ شاء اللَّهُ تعالى. فعلى هذا يمكنُ أَنْ يُقالَ بهذا هنا: وهو أنَّ المرادَ نَفْيُ استواءِ الظلماتِ ونَفْيُ استواءِ جنسِ النورِ، إلاَّ أنَّ هذا غيرُ مُرادً هنا في الظاهر، إذ المرادُ مقابَلَةُ هذه الأجناسِ بعضِها ببعضٍ لا مقابلةُ بعضِ أفرادِ كلِّ جنسٍ على حِدَتِه. ويُرَجِّح هذا الظاهرَ التصريحُ بهذا في قوله أولًا: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} حيث لم يُكرِّرْها. وهذا من المواضعِ الحسنةِ المفيدة.
والحَرُوْرُ: شدةُ حَرِّ الشمس. وقال الزمخشري: الحَرورُ السَّمُوم، إلاَّ أنَّ السَّمومَ بالنهارِ، والحَرورَ فيه وفي الليل. قلت: وهذا مذهبُ الفراءِ وغيرِه. وقيل: السَّمومُ بالنهار، والحَرورُ بالليل خاصةً، نقله ابنُ عطية عَن رؤبةَ. وقال: ليس بصحيحٍ، بل الصحيحُ ما قاله الفراءُ. وهذا عجيبٌ منه كيف يَرُدُّ على أصحاب اللسانِ بقولِ مَنْ يأخذُ عنهم؟ وقرأ الكسائي في روايةِ زاذانَ عنه {وَمَا تَسْتَوِي الأحياء} بالتأنيث على معنى الجماعة.
وهذه الأشياءُ جيْءَ بها على سبيلِ الاستعارةِ والتمثيلِ، فالأعمى والبصيرُ، الكافرُ والمؤمنُ، والظلماتُ والنورُ، الكفرُ والإِيمان، والظلُّ والحَرورُ، الحقُّ والباطلُ، والأحياء والأمواتُ، لمَنْ دَخَل في الإِسلامِ لَمَّا ضَرَبَ الأعمى والبصيرَ مَثَلَيْن للكافرِ والمؤمنِ عَقَّبَه بما كلٌّ منها فيه، فالكافرُ في ظلمةٍ، والمؤمنُ في نورٍ؛ لأنَّ البصيرَ وإن كان حديدَ النظر لابد له مِنْ ضوءٍ يُبْصِرُ به، وقَدَّم الأعمى لأنَّ البصيرَ فاصلةٌ فَحَسُنَ تأخيره، ولمَّا تقدَّم الأعمى في الذكر ناسَبَ تقديمَ ما هو فيه، فلذلك قُدِّمَتِ الظلمةُ على النور، ولأنَّ النورَ فاصلةٌ، ثم ذَكَر ما لكلٍّ منهما فللمؤمنِ الظلُّ وللكافرِ الحَرورُ، وأخّر الحرورَ لأجلِ الفاصلةِ كما تقدَّم.
وقولي لأجلِ الفاصلةِ هنا وفي غيرِه من الأماكنِ أحسنُ مِنْ قولِ بَعْضِهم لأجلِ السَّجْع؛ لأنَّ القرآن يُنَزَّه عن ذلِك. وقد منع الجمهورُ أَنْ يُقال في القرآن سَجْعٌ، وإنما كرَّر الفعلَ في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأحياء} مبالغةً في ذلك؛ لأنَّ المنافاةَ بين الحياةِ والموتِ أتمُّ من المنافاةِ المتقدمةِ، وقدَّم الإِحياءَ لشرفِ الحياةِ ولم يُعِدْ لا تأكيدًا في قولِه: {الأَعمى والبصير} وكرَّرها في غيره؛ لأنَّ منافاةَ ما بعدَه أتمُّ، فإن الشخصَ الواحدَ قد يكونُ بصيرًا ثم يصيرُ أَعْمى، فلا منافاةَ إلاَّ من حيث الوصفُ بخلافِ الظلِّ والحرورِ، والظلماتِ والنور، فإنها متنافيةٌ أبدًا، لا يَجْتمع اثنان منها في محلّ، فالمنافاةُ بين الظلِّ والحرورِ وبين الظلمةِ والنورِ دائمةٌ.
فإنْ قيل: الحياةُ والموتُ بمنزلةِ العمى والبصرِ، فإنَّ الجسمَ قد يكون مُتَّصفًا بالحياةِ ثم يتصفُ بالموت. فالجواب: أنَّ المنافاةَ بينهما أتمُّ من المنافاةِ بين الأعمى والبصيرِ؛ لأنَّ الأعمى والبصيرَ يشتركان في إدراكات كثيرةٍ، ولا كذلكَ الحيُّ والميت، فالمنافاةُ بينهما أتمُّ، وأفردَ الأعمى والبصيرَ لأنَّه قابلَ الجنسَ بالجنسِ، إذ قد يُوْجد في أفراد العُمْيان ما يُساوي بعضَ أفرادِ البُصَراءِ كأعمى ذكي له بصيرةٌ يُساوي بصيرًا بليدًا، فالتفاوتُ بين الجنسين مقطوعٌ به لا بين الأفراد.
وجَمَعَ الظلماتِ لأنها عبارةٌ عن الكفرِ والضلالِ، وطرقُهما كثيرةٌ متشعبةٌ، ووحَّد النورَ لأنه عبارةٌ عن التوحيدِ وهو واحدٌ، فالتفاوتُ بين كلِّ فردٍ مِنْ أفرادِ الظلمة، وبين هذا الفردِ الواحد. والمعنى: الظلماتُ كلُّها لا تجدُ فيها ما يساوي هذا الواحدَ كذا قيل. وعندي أنه ينبغي أَنْ يُقال: إن هذا الجمعَ لا يُساوي هذا الواحدَ فيُعْلَمُ انتفاءُ مساواةِ فردٍ منه لهذا الواحدِ بطريقِ الأَوْلى، وإنما جَمَع الأحياءَ والأمواتَ لأنَّ التفاوتَ بينهما أكثرُ؛ إذ ما من ميتٍ يُساوي في الإِدراك حيًَّا، فذكَرَ أنَّ الأحياءَ لا يُساوون الأموات سواءً قابَلْتَ الجنسَ بالجنسِ، أم الفردَ بالفرد.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)}.
قوله: {بالحق}: يجوزُ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه حالٌ من الفاعلِ أي: أَرْسلناك مُحِقِّين، أو من المفعولِ أي: مُحِقًّا، أو نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: إرسالًا مُلْتَبِسًا بالحق، أو متعلقٌ ب بشير ونذير. قال الزمخشري: على: بشيرًا بالوعدِ الحقِّ، ونذيرًا بالوعيد الحق قال الشيخ: ولا يمكن أَنْ يتعلَّقَ {بالحق} هذا ب بشير ونذير معًا، بل ينبغي أَنْ يُتَأوَّل كلامُه على أنه أراد أنَّ ثَمَّ محذوفًا. والتقدير: بشيرًا بالوعد الحق، ونذيرًا بالوعيد الحق. قلت: وقد صرَّحَ الرجلُ بهذا.
قوله: {إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} خبر {مِنْ أمةٍ} وحَذَفَ مِنْ هذا ما أثبته في الأول؛ إذ التقديرُ: إلاَّ خَلا فيها نذيرٌ وبشير.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)}.
قوله: {فَأَخْرَجْنَا}: هذا التفاتٌ من الغَيْبةِ إلى التكلم. وإنما كان ذلك لأنَّ المِنَّةَ بالإِخراج أبلغُ من إنزال الماءِ. و{مختلفًا} نعتٌ ل {ثمرات}، و{ألوانُها} فاعلٌ به، ولولا ذلك لأنَّث {مختلفًا}، ولكنه لمَّا أُسْند إلى جمعِ تكسيرٍ غيرِ عاقلٍ جاز تذكيرُه، ولو أنَّثَ فقيل: مختلفة، كما تقول: اختلفَتْ ألوانُها لجازَ، وبه قرأ زيد بن علي.
قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} العامَّةُ على ضمِّ الجيمِ وفتح الدالِ، جمعَ جُدَّة وهي الطريقةُ. قال ابن بحر: قِطَعٌ، مِنْ قولك: جَدَدْت الشيءَ قَطَعْتُه. وقال أبو الفضل: هي ما تخالَفَ من الطرائق لونُ ما يليها، ومنه جُدَّة الحِمارِ للخَطِّ الذي في ظهرِه. وقرأ الزهري {جُدُد} بضم الجيم والدال جمع جَدِيْدَة، يقال: جديدة وجُدُد وجَدائد. قال أبو ذُؤيب:
جَوْنُ السَّراةِ له جَدائدُ أربعُ

نحو: سفينة وسُفُن وسفائِن. وقال أبو الفضل: جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان. وعنه أيضًا جَدَد بفتحهما. وقد رَدَّ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ من حيثُ الأثرُ والمعنى، وقد صَحَّحهما غيرُه. وقال: الجَدَدُ: الطريق الواضح البيِّن، إلاَّ أنه وضع المفرَد موضعَ الجمعِ؛ إذ المرادُ الطرائقُ والخطوطُ.